في لحظة عصف بي الحزن ولوازمه وبدأت ارض الأحداث في كل يوم تهتز من تحت قدمي، وبدا اني سأضع كل مثاليات السعادة والحياة السعيدة على الرف لأتفرغ قليلا لحل كل هذه المعضلات التي اقسم انها لا تأتي إلا جملة واحدة ....إنها اشبه ما تكون بقبيلة همجية من الأقزام تهجم عليك فترى قزما يحاول جاهدا خنقك والآخر ينزع ثيابك والثالث ينتشل اموالك طبعاً.. بينما ينتظر البقية دورهم بنفاد صبر إذ لم يعد هناك حيز يستطيعون من خلاله مهاجمتك...تتعب مجموعة الأقزام من العراك معي لأدخل في صراع آخر مع المجموعة التي لم يحن وقت ادائها للواجب بعد..اقزام بشعون لهم شعورٌ حمراء وأحذية صفراء وما بينهما....لا داعي لوصفه فلكم الخيار في انتقاء اوصاف قبيحة لهذه العرائس النكدة!!
في استراحة المحارب في صراعي مع هذه الهموم -الأقزام- جلست امام مربي القرن العشرين...اقصد التلفاز طبعاً.. حاولت ان اقلب بين قنواته ولا ازعم انني ابحث عن شيء؛ كنت فقط احاول تشتيت انتباهي عن التفكير بكل هذه الترهات التي تهجم علي من آن إلى آخر..وجدت نفسي اقلب القنوات بسرعة جنونية...ثم هدأت نفسي قليلا استقررت على قناة تعرض برنامج مسابقات حول الثقافة العامة....لا بئس سأقضي بعض الوقت مع معلومات لن تفيدني ابدا عن الغرائبيات والأسماء القديمة لجزر لا يعرف معظم الناس اسمائها الجديدة فضلا عن ان يعرفوا المعنى القديم!! توقف البرنامج في فاصل اعلاني....ولكن ما هذا يا الهي...منذ سنوات وانا تمر علي هذه المشاهد ولكنني لم اتدبرها إلا للتو.....الشمس مشرقة وعائلة سعيدة ملتفة على طاولة مستديرة والكل مبتسم وفي غاية الفرح والسرور...تقوم الأم بإهداء طفلها المدلل خبزة ملفوفة بالجبن فيذهب فرحا للعلب في المروج الخضراء....كنت اتابع هذا الإعلان بغباء فما ان انتهى حتى اخذت التفت يمنة ويسرة لعل احد رأى كل هذا الاندماج الذي غرقت فيه.....يا الله كم هي جميلة حياة إعلان الجبن هذا....وأنا لن آلو جهدا في أن اكون جزءا منها...ليس لدي مشكلة فسأقوم بتمجيد الجبن كما يقوم به هؤلاء....ولكن اعطوني كل هذه الإبتسامات وهذا البيت الخشبي وهذا الريف الساحر ....كم هي جميلة حياة إعلانات الجبن والكورن فلكس ورقائق البطاطس...لابد أن افلاطون كان سيغير افكاره عن المدينة الفاضلة التي زعمها لو أنه رأى ثلاثة او اربعه من هذه الاعلانات وحتى كامبانيلا لن يكتب حرفا عن مدينة الشمس لو شاهد بدوره هذه الاعلانات!!
* * *
الثقافة التي فرضت نفسها على الناس هي ثقافة رأسمالية...فكل شيء يفترض انه يشترى...فالناس تبتلع حبوبا لتضحك فتشتري الضحك وتشتري النحافة وتشتري الأسرة والعلاقات!...كل هذه العجائب حدثت منذ ان اصبح النظام السائد هو نظام رأس المال... عجبا والله وهل للمال رأس وعجيزة؟ والأعجب ان الانسان يسير في مسيرة حياته مسيرة استهلاكية لا اكثر ولا اقل فعلاقته مع من حوله علاقة المستهلك بالسلع!
طريقة غريبة حقا في التفاعل بين الإنسان وما حوله.. إنه يدعي ملكية كل شيء على الأرض إلى ان تستدعيه الأرض ليكون ملكا لها!!
لقد اصبحت مرهقا من قراءة التاريخ ومثالياته وملاحمه فالواقع مختلف...مختلفٌ جدا...فالطريقة المتبوعة في تقييم الناس هي في تقييم قدرتهم الشرائية....فالعظيم من يشتري كل شيء والوضيع لا يشتري شيئا...وهكذا يحقق الإنسان عظمته وسمعته وجبروته ومكانته في السوق حيث تخضع له كل السلع في صَغَارٍ وذُل...ولا يستعصي على جيبه المتخم منها شيء...حتى اذا شبع من سلع السوق وسع دائرة سلعه فاشترى له سمعةً وشرفاً وعددا من الصحفيين ونسب إلى ارض لم تَطؤها اقدامُ اجداده واشترى له احباب واصدقاء ومريدين وجيران ودعاة.....إنه المال يا عزيزي.....اليس المجتمع مجتمع رأسمالي؟ فالمال هو الرأس وهو القائد وهو المحرك في المجتمعات الحديثة...وإذا ما عرفت ان النقود اصلا ليس لها قيمة في الوقت الحالي فليس لها غطاء من الذهب يوازي قيمتها في البنك وإنما ارتباط لا نهائي بين العملات والسمعة الاقتصادية....النقود وهم بالقيمة وهي فكرة تصالحية تسالم عليها الناس وعاشوها لانها تحل اشكالية التعاملات الاقتصادية ولكن قيمة النقود وهم ...والعالم يُسَيَرُ بالنقود....يا لطيف هذا العالم اقرب الى الوهم!!
* * *
بعد اربعة ايام من الابتعاد عن الطعام ما خلا بعض حبات الفاكهة والحليب...بدأت اشعر ان الجوع تجربة روحانية...ربما فعلت ذلك ارضاء لغروري ولكي اقول لنفسي استطيع ان لا ادفن نفسي في انشطة استهلاكية طوال الوقت...ولكن الأكيد في هذه التجربة انها تنقلك إلى ذهن اصفى وانقى وقدرة على النظر إلى حياتك من مسافة لا بئس بها وتقييمها...
اعرف ان غاندي كان يصوم يوما في الاسبوع عن الكلام....وكذلك ورد في القرآن عن نبي الله زكريا عليه السلام ومريم ابنة عمران عليها السلام....
اعتقد انني سأختار يوما ابتعد فيه عن الكلام وابتعد فيه عن الطعام وابتعد فيه عن التكنولوجيا وذبذباتها وتوتراتها وسأقطع خدمة الأخبار عن هاتفي النقال...بل سأغلق جهازي واجلس على رمال الصحراء....شيء في داخلي يقول لي ان هذه اللحظات ستكون لحظات نقية صافية هادئة تغسل القلب ....اسأل الله ان يرزق الجميع قلبا مطمئنا
هناك تعليق واحد:
ما شاء الله
سرد عقلي قصصي فلسفي رائع اتحفنا بالمزيد
بارك الله فيك
إرسال تعليق