الجمعة، 21 ديسمبر 2007

الوحيد


في أيام المدارس كان يوجد شخص مشاغب يحتل مركز الصدارة في التخريب و إيقاظ الروح الشريرة لدى باقي الأولاد في العبث و القفز و إفراغ طاقتهم الصبيانية في كل شيء و في أي مكان

و يوجد كذلك هذا الولد المنعزل و المنطوي....يختبأ خلف نظارته....نحيف و شاحب اللون

كان الموت أحب إليه من أن يتحدث مع أبناء صفه من التلاميذ

و مع ذلك لم يكن مكتئبا

كان يمضغ طعامه بهدوء تام في فترة الطعام...و عندما ينظر إليه احدهم...يرجع إليه النظرة بسرعة و من ثم يتحول بنظره إلى مكان آخر

خطه رديء و صوته منخفض جدا عندما يتكلم

هل تعتقد أنه بلا أصدقاء؟؟

في مفهومنا نحن ربما

و لكن الذي لا نعرفه عنه...أن سبب قلت كلامه أنه كان يحدث نفسه كثيرا إلى درجة ينشغل بها عمن حوله

شيء غريب حقا و لكنه إجتماعي مع نفسه لا مع الآخرين

كان كل ما حوله يحدثه إلى درجة يصعب معها الإصغاء إلى أهله و أصدقائه

***

لم أكن أفقه هذا المعنى كثيرا..إلى آن وجدت بعض صوره و تجلياته في رواية القنفذ لزكريا تامر

و عنوان الرواية معبر حقا...فالقنفذ بشوكه يوحي أنه لا يريد الإقتراب من أحد...يعيش لوحده و يهدد كل من حوله بسلاح صامت إن حاولوا التقرب منه...في هذه القصة يتكلم الطفل مع كل شيء تقريبا مع القطة و مع الحيطان و الثمار و الأشجار و السمك

و كنت أنا أقترب من هذا المعنى بحسي...فلم أكن أرى الجمادات جمادات بطبعها

أليست هذه الأمم من الحيوانات هي أمم مثلنا؟؟

وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم

ألم يسمع سليمان كلام النملة؟ ألم يحن الجذع للرسول صلى الله عليه وسلم؟

أليست الجبال تأوب و تسبح مع سيدنا داوود عليه السلام أليس الحديد يلين بين يديه؟

أليست الريح تطيع سليمان عليه السلام؟

فكان إنطباعي الأولي أن ما حولنا من أشياء و حيوانات ليس من الصعب إستنطاق معانيها و حالاتها

فلم أعد أرى حالة الطفل الذي تكلمت عنه في البداية غريبة

أحيانا يختار أحدنا من يريد أن يتآلف معه و يتخادن معه

***

يقول زكريا تامر في روايته القنفذ عن الطفل الصغير المشاغب

سألت صديقي الحائط الأسود الحجري المفضل لدي عن آخر أخبار بيتنا، فقال إن كل شيء هادئ ولا جديد يستحق الذكر

فقلت له:و لكن أمي عابسة الوجه

قال الحائط:إذا كانت حيطان غرفة أمك و أبيك غير كاذبة فعبوسها لا سبب له سوى اختلافها مع ابيك

قلت و لماذا اختلفت أمي مع أبي؟

قال الحائط أبوك اقترح الإنتقال إلى حارة جديدة و بيت جديد و أمك رفضت فورا اقتراحه و قالت إنها تحب هذا البيت و لن تتركه

قلت و لكننا إذا إنتقلنا إلى بيت جديد فلن تستطيع الإنتقال معنا؟؟

فقال الحائط ساخرا: لا تقلق.سأزكيك لدى الحيطان الأخرى حتى تحكي معك و تسليك

فلمست الحائط بيد حانية ، و قلت له : و لكن الحيطان الأخرى لن تكون مثلك و لن تحل محلك؟

قال الحائط:كف عن لمسي و إلا بكيت و من المعيب أن تبكي الحيطان

فتركت الحائط و هرعت إلى أمي و قلت متسائلا أصحيح أننا سننتقل إلى بيت جديد؟

فقالت أمي لي:ألن تبطل عادتك في التجسس و التنصت على أحاديث الآخرين

***

بالنسبة لي كان هذا الحوار شائقا و جميلا بين حائط و طفل صغير يخشى الإنتقال من منزله إلى منزل آخر لا يعرفه

و الذي يجب أن نعتقده في قليلي الكلام أن سبب ذلك أنهم يستنطقون ما حولهم و يحدثون أنفسهم في لحظات يتذكرونها في الماضي و ليس السبب في ذلك أنهم لا يجدون ما يقولونه!

الأمور الحية هي الأمور التي نراها نحن حية في أنفسنا...فإذا أحببت شيئا فسيظل حيا في نفسك وإن مات في العالم الذي نعيشه

و إن تفاعلت مع شيء ستراه ينطق و لو لم يكن ناطقا

إن أجمل ما في هذه الحياة أن الجمال يصدر من عيون الناظر لا من المنظر الذي يراه

فانظر إلى أمورك و بث فيها الحياة و استشعر جمال اللحظة بكل مكوناتها من بشر و جمادات و غيرها